ذُهُـول - محمد عبدالسلام منصور
الأحد 21 يناير 2018 الساعة 13:02
الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة

 

تَوَسّدَ زَنْدي قالَ: مَوتي هُنا يَحْلُو
فَقلتُ بِرُوحي أنْتَ وامْتَنعَ البَذْلُ

نَظَرتُ إلى إغْماضَةِ الجَفْنِ ذاهلاً
أُنادِيهِ والأنفاسُ منْ صَدْرِهِ تَعْلُو

أدارَ إليَّ الطَّرْفَ مُضْنَىً يُجِيْبُني
وفي بَسْمَةٍ وَعْثاءَ يَنْطَفِئُ الخِلُّ

فَعَلّقْتُ في عَيْنَيهِ عَيْنَيَّ مُمْسِكاً
بِضَوئِهما أُبْقيهِ فانْصَرَمَ الشَّمْلُ

وماتَ أبي آهٍ بِحِضْني فَلَمْ أعُدْ
سُوى مُقْلَةٍ بَيْضاءَ أرْهَقَها الهَطْلُ

وطَيرٍ ذَبيحٍ كُلَّما فَرَّ خاطِفاً
بَقايا دَمٍ يَنْأى تَخَطّفَهُ قَتْلُ

تَقَسَّمَ سَهْمُ المَوْتِ نِصْفَينِ بَيْنَنا
لرُوحِ أبي رِيْشُ النَّوَى وليَ النَّصْلُ

نَعَتْهُ لَدَى الظَّلْماءِ بالشَّجْوِ أنَّةٌ
بِعُصفورَةٍ مِثْلي يَفِيضُ بِها الثُّكْلُ

بَكَى النَّجْمُ مِلْءَ اللَّيْلِ حَتّى تَقَضَّيا
وأجْهَشَ طَرْفُ الصُّبْحِ وانْكَسَرَ الظِّلُّ

فسَبَّحْتُ مَرْآهُ البَهِيَّ ومُهْجَتي
تُفارِقُني عَجْلَى يَضِجُّ بِها الذُّهْلُ

فقُلتُ لَها: باللهِ مَهْلاً، فأدْمُعي
تُوَدِّعُهُ، فاضَتْ، فكانا هُما الغَسْلُ

وخِطْنا لَهُ سِرْباً منَ الدَّمْعِ غَيْمَةً
وكَفَّنَهُ الرَّيْحانُ وانْتَحَبَ الطَّلُّ

تَلقّاهُ عَرْشُ المَوْتِ فاخْضَرَّ عُوْدُهُ
وفاضَتْ عُيُونُ الصَّخْرِ واغْرَوْرَقَ الرَّمْلُ

تُسائِلُني قَطْرُ النَّدَى بَلْ دُمُوعُها:
إلى أينَ يَمْضي؟ لَمْ أُجِبْ فَلَهُ السُّؤْلُ

وخَلَّفْتُها، في غَمْرَةِ الدَّمْعِ فالنُّهَى
أمامَ سُؤالِ المَوْتِ يَغْمُرُهُ الجَهْلُ

ولكِنَّهُ في خاطِرِ الفَقْدِ طائِفٌ
مُلِحٌّ ومِنْ حَولي يَعُجُّ بِهِ الرَّحْلُ

يُوَشْوِشُني والقَلْبُ دامٍ يُغِيْظُني
أُبـاعِدُهُ يَدْنُو، أفارِقُـهُ يَتْلُو

يُمَزِّقُ رُوْحي في العَمَى: إنْ سَمِعْتُهُ
أُجَنُّ، وإنْ أعْرَضْتُ عَنْهُ نَأى العَقْلُ

فَمَنْ يَهْدِ قَلْبي للحَقِيقَةِ بِعْتُهُ
بِها نِصْفَ عُمْري، كُلَّهُ؛ ولَهُ الفَضْلُ

أنَقْضي فنَحْيا بَعْدُ؟ أمْ إنَّ مَوْتَنا
فَراغٌ بِظَهْرِ الغَيْبِ مُنْعِدِمٌ غَفْلُ

أيَطْغَى بِحالِ النّاسِ بَعْدَ حَياتِهِمْ
غِيابٌ بِلا ذِكْرَى كحالَتِهِمْ قَبْلُ؟

هَلِ الحُبُّ يَبْقَى مِثْلَما كانَ بَيْنَنا
أمِ الأصْدِقاءُ الغاضِبُونَ أمِ الأهْلُ؟

هُمُ الرُّوحُ تَشْقَى بالحَياةِ لِبُعْدِهِمْ
وتُسْعِدُها القُرْبَى بِهِمْ أيْنَما حَلُّوا

فلو أسْعَدُوا في الغَيبِ بالوَصْلِ أسْرَعَتْ
إلى حَتْفِها، فالمَوْتُ لو أسعَدُوا يَحْلُو

ولكِنَّها والمَوتُ كالغَيْبِ مُبْهَمٌ
إذا قَدَّمَتْ رِجْلاً تُؤَخِّرُها رِجْلُ

هَلِ الموتُ إغْماضٌ، أمِ الفَقْدُ غايَةٌ؟
وهَلْ كانَ مِنْ لَيْلِ القُبُورِ لَنا قَفْلُ

فلَمْ تَدْرِ إنْ فاضَتْ إلَيهِمْ تَشَوُّقاً
أتَصْفُو لَها اللُّقْيا ويَكْتَمِلُ الوَصْلُ

إذا هَدَّها المَجْهُولُ لاذَتْ بِحُزْنِها
فَتَعْشَوشِبُ الذِّكْرَى ويُخْصِبُها الوَبْلُ

تُلَمْلِمُني في الوَهْمِ صَبْراً وأدْمُعاً
لَعَلَّ يَقِينَ الغَيْبِ مِنْ شَكِّهِ يَجْلُو

تُعَذِّبُني ذِكْرَى الأحِبَّةِ, فالرُّؤَى
رُؤاهُمْ ونارُ الفَقْدِ في مُهْجَتي مُهْلُ

بَنانُ الهَوَى يَغْزِلْنَ أشْتاتَ طَلْعِها
خُيوطَ لَهِيْبٍ يَسْتَطِيْرُ بِها الغَزْلُ

يَمُرُّ بِنا الأحْبابُ في خاطِرِ المُنَى
طُيوفاً كنُورِ اللهِ ليسَ لَهُ شَكْلُ

حُضورٌ كوُجْدانِ المُحِبِّينَ غائِبٌ
فلا ضَمَّنا وَصْلٌ وليسَ لنا فَصْلُ

أُصَلّي لَهُمْ حُبّاً ليأْتُوا حَقِيقةً
فلا هُمْ أجابوني ولا مَسَّني مَلُّ

تُعَلِّلُني بالوَهْمِ أطْيافُهُمْ مُنَىً
جَوارِحَ في الأحْشاءِ لكِنَّني أسْلُو

تَمَنَّيْتُ أنّي النَّعْشُ أو كُنْتُ خادِماً
لِصاحِبِهِ في القَبْرِ أو أنَّني النَّهْلُ

سَتَرْحَلُ رُوْحي نَحْوَهُ فَيْضَ آهَةٍ
وتجعَلُ مَثْواهُ الأخِيْرَ هُوَ النُّزْلُ

فقَدْ ضاقَتِ الدُّنْيا بِنا إنَّ فَقْدَهُ
فَراغٌ ثَقِيلُ الغَمِّ ناءَ بِهِ الحَمْلُ

أقامَ لَنا في قَبْضَةِ الموتِ مَنْزِلاً
فَناءاتُهُ نَوحٌ وأوْقاتُهُ مَحْلُ

سَرَى في دَمي مِثلَ السُّرَى فيهِ إنَّني
شَرِيدٌ بِظَهْرِ اللَّيْلِ يَسْكُنُهُ دَغْلُ

رَهِينَ أسَىً إنْ لامَسَ الحَرْفُ آهَتي
أذَبْتُهُما شَجْواً، وأدْمُعُنا رَسْلُ

وَحِيداً أعاني غُرْبَتَيْنِ، فَفُرْقَةٌ
ومَعْرِفَةٌ أنَّ الوَرَى كُلَّهُ هَزْلُ

فنُوْلَدُ قَهْراً ثُمَّ نَحْيا تَعاسَةً
فيأتي اغْتِصابُ الموتِ أوْ عُمُرٌ رَذْلُ

لَعَنْتُ انْشِغالي بالحَياةِ فحُسْنُها
بَريقُ بَغِيِّ السُّوْقِ داعِرُها نَذْلُ

وطَلَّقْتُ دُنْيايَ الخَسِيْسَةَ؛ صارَ لي
بأوْجاعِ رُوْحي عَنْ مَباهِجِها شُغْلُ

وأقْرَضْتُ خُطّابَ البَغِيِّ تَبَسُّماً
فإنْ عَذَلُوا زُهْدي أقُولُ لَهُمْ وَلُّوا

سأغْسِلُ رُوْحي بالبُكاءِ لَعَلَّهُ
يُبَلْسِمُ جُرْحاً غائِراً ما لَهُ مِثْلُ

فمَنْ باتَ فَرْدا بَعْدَ مِثْلِ أبي بَكَى
قَسِيْمَ فُؤادٍ ما افْتِقادٌ لَهُ سَهْلُ

رَحَلْتَ فألْقَى سَيِّدُ الأرْضِ ثَوبَهُ
عَليها طَغَى البُطْلانُ وانْتَحَرَ العَدْلُ

فأيَّ المُنَى أنْعَى إليكَ وَكُلُّها
وآمالُنا الجَذْلَى يُعَفِّرُها الخَذْلُ

فعُدْنا إلى اليَأْسِ المُعَتَّقِ ثانِياً
وقدْ كادَ يَوماً يَسْتَقِيْمُ لَنا الفِعْلُ

هُوَ الموتُ يَمْضي بالأحَبَّةِ عابِثاً
وسَيْفُ قَضاءِ اللهِ ليسَ لَهُ فَلُّ.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

متعلقات