وحش الفراغ والآلة الجهنمية - علوان الجيلاني
الاثنين 19 نوفمبر 2018 الساعة 09:42
الرأي برس - خاص - أدب وثقافة




(لم تحظ أسطورة بمثل ما حظيت به أسطورة (أوديب) من اهتمام كتاب المسرح، والفضل الأول في ذلك - من غير شك- للشاعر اليوناني (سوفو كليس) فهو الذي تناول الأسطورة من أفواه الشعب وصاغها، وكثف مضمونها الفلسفي في مسرحيته الكاملة (أوديب ملكاً) التي فرضت نفسها على الأدب المسرحي كله في جميع العصور، ولقد تناول أسطورة (أوديب) أكثر من ثلاثين كاتباً مسرحياً فلم يخرج منهم عن الخط الدرامي الذي رسمه (سوفو كليس) في القرن الخامس قبل الميلاد غير (كوكتو). فقد أضاف (كورني) إليها في عام 1858م قصة حب جانبية، لإرضاء جمهوره الباريسي. وفي عام 1934م قام (كوكتو) بتجديدها تجديداً شاملاً، وأبرز السمات الإنسانية العادية لأبطالها،ولم يقف عند الوقار التقليدي والعبوس التراجيدي، بل فجر المأساة من صميم المهزلة دون أن يفقدها ما لها من جلال، ومن طابع شعري رفيع). 
 

(مقدمة ترجمة الآلة الجهنمية).
أما المأساة التي يفجرها (كوكتو) من صميم المهزلة، فإنها تبدو واضحة من البداية.. حيث نجد أنفسنا في طريق خارجي على أسوار مدينة طيبة، جدران عالية، ليلة صاخبة،ومضات حماس، يسمع دق الطبول والموسيقى من الحي الشعبي، وثمة جنديان أحدهما شاب والآخر كبير..
- الجندي الشاب: إنهم يلهون.
- الجندي الكبير: إنهم يحاولون.
- الجندي الشاب: النتيجة أنهم يرقصون طوال الليل.
- الجندي الكبير: إنهم لا يستطيعون النوم، ولذلك يرقصون.
- الجندي الشاب: سيان إنهم يتطارحون الغرام ويقضون الليل في دور اللهو بينما أنا أذرع المكان جيئة وذهاباً معك، ببساطة لم أعد أحتمل هذا.

 

* ما الذي لم يعد يحتمله الجندي الشاب إنه وحشية النظام، طغيان الآلة.. التي تحول الإنسان إلى مجرد آلة في ترس ضخم، تمتصه قوة مسيطرة.. وتتغدى بشبابه، وقدراته، فيما هو في الظل لا حول له ولا قوة.. لقد أدرك الشاب مأزقه الوجودي والإنساني.. إنه يعاني من عسر الوجود على حد تعبير (كوكتو) في كتاب له بهذا الاسم.
 

ولأن الآلة الجهنمية قد فعلت كل ما في وسعها لتدجينه، وربط كل نابضة فيه بأسلاكها الخبيثة، فإنه يعرف أنه لن يتخلص منها إلا إذا كان قادراً على تحمل ما هو أسوأ.. وعندما يقترح عليه رفيقه الجندي الكبير أن يهرب.. يجيبه:
- كلا، كلا: لقد قررت أن أسجل اسمي لأذهب إلى ذلك الوحش.
(يقصد وحش طيبة المشهور بأسئلته الثلاثة.. التي يكون الموت مصير من يعجز عن حل لغزها...).
يقول الجندي الكبير: لكي تفعل أي شيء..
فيرد الجندي الشاب: لكي أفعل أي شيء؟ 
لكي أفعل شيئاً ما، لكي أضع حداً لهذا التوتر، وهذا الجمود المخيف سأذهب، سأذهب لأني لم أعد أستطيع إحصاء أحجار هذا الحائط، وسماع هذه الموسيقى ورؤية وجهك القبيح.

 

وفي وضعهما المأساوي يتحدثان عن الشبح أو الوحش الذي يريد الجندي الشاب أن يتخلص من ملله وضيقه بالآلة الجهنمية،بالذهاب إليه.. بخوف في البداية يتحدثان عنه ولكن وضعه بإزاء الحال الذي يعيشان يهون الأمر شيئاً فشيئاً حتى نسمع الجندي الكبير يقول:
- إن ذلك الشبح لم يخفنا قط، نعم، لعل شيئاً كهذا قد حدث في المرة الأولى، ولكن بعد ذلك هه؟ لقد كان شبحاً طيباً يكاد أن يكون زميلاً ومسلياً، وإذا كانت فكرة الشبح تجعلك تقفز في الهواء فلأن أعصابك مشدودة مثلي، ومثل جميع الناس ما خلا بعض الكبار الذين يستفيدون من كل شيء.
ويتحدث الجندي الشاب عن الوحش فيقول: هناك من يزعمون أنه ليس أكبر من أرنب بري، وأنه هياب وله رأس امرأة، صغيرة للغاية، أما أنا فأعتقد أن له رأس امرأة وصدرها، وأنه يضاجع الشبان.
ويعود فيقول: لعله لا يطلب شيئاً ولا يلمسك أيضاً، يكفي أن يقابله المرء، وينظر إليه ويسقط ميتاً من الحب..

 

ويستمر الحوار بين الجنديين على هذا النحو، حتى أن الوحش ليبدو لهما أفضل من الآلة الجهنمية، وحتى نصل إلى ما يريد (كوكتو) أن يقوله في مشهد المسرحية الأول، فالموت في الوباء الشامل وباء الوحش أو الشبح أو الفراغ، أو أي موت جماعي خير من الموت في جوف وبين مخالب وأنياب الآلة الجهنمية، التي تخفي تحت قناعها البشري مصاص دماء، مجرد مصاص دماء، تخرج الضحايا من بين يديه وهي تحمل نفس الجرح..! 


*كتابة نشرتها ملحق الثورة الثقافي قيبل عشرين سنة.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

متعلقات