باصرة وتاريخ الهجرة الحضرمية - أ‌. د. مسعود عمشوش
الخميس 13 ديسمبر 2018 الساعة 08:01
الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة



لن يختلف اثنان حول أن الدكتور صالح علي باصرة شخصية متعددة الجوانب والمواهب؛ فهو الإنسان والأب والنقابي والإداري والسياسي والأستاذ الأكاديمي والباحث المؤرخ. وسبق أن قمت بتسليط الضوء قليلا على تميُّز منهج باصرة في كتابة التاريخ عند استعراضي لكتابه (دراسات من تاريخ حضرموت الحديث والمعاصر). وذكرت أن باصرة عند كتابته للتاريخ يعطي اهتماما كبيرا للأبعاد الاجتماعية والاقتصادية للمكان الذي يؤرخ له. فهو، مثلا، عند انعقاد مؤتمر (رامبو وعدن) في مطلع عام 1990، قام بإعداد بحثٍ عن الأحوال الاجتماعية والاقتصادية في عدن أثناء الفترة التي عاش فيها رامبو في عدن: أي الربع الأخير من القرن التاسع عشر للميلاد. وهو أحد الأبحاث الخمسة التي تقدم بها باصرة في أول عام من هذه الألفية لمجلس كلية الآداب جامعة عدن لنيل لقب الأستاذية.
وفي السطور الآتية سأتناول اهتمام باصرة بقضايا الهجرة الحضرمية، وذلك في إطار كتاباته لتاريخ حضرموت الحديث والمعاصر. فمنذ نهاية القرن الماضي عكف باصرة على كتابة عدد من الأبحاث هجرة الحضارم. ففي عام 1999 أعدّ باصرة بحثا في عن (الهجرة الحضرمية إلى جنوب شرق آسيا) شارك به في ندوة (المغتربون: الرافد الأساسي للتنمية المستدامة) التي نظمها المجلس الاستشاري ووزارة المغتربين في الجمهورية اليمنية- صنعاء 15-17 مايو 1999). وقد تحدث باصرة في هذا البحث عن الدور المهم الذي قام به المهاجرون الحضارم وأحفادهم في مختلف نواحي الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدينية في معظم جزر الأرخبيل الهندي منذ نهاية القرن الثامن عشر، وأكد فيه أنهم، بفضل أخلاقهم وسلوكهم استطاعوا أن يكسبوا ود السكان المحليين، "وكثير منهم اندمجوا وسطهم وصاروا جزءا من نسيج تلك المجتمعات التي استقروا وسطها. وقد مكنهم ذلك من نشر الدين الإسلامي في تلك البقاع وأن يتبوؤوا عدداً من المناصب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية. وفيما يتعلق بمدينة سنغافورة بالتحديد، من المؤكد أن الحضارم قد قاموا بدور مهم جداً في نشأتها وتنمية الحركة التجارية والعمرانية فيها. فعندما قرر الجنرال البريطاني ستامفورد رافلز إنشاء تلك الجزيرة/المدينة سنة 1819 كان يدرك دور الحضارم في تسيير التجارة في جزر الأرخبيل الهندي، وسعى إلى اجتذاب التجار الحضارم المستقرين في جاوة إلى مدينته الجديدة. وبحلول عام 1824 كان هناك نحو عشرين مواطناً حضرمياً في الجزيرة. وبما أنه كان يشعر أن الهجرة الحضرمية سوف تتزايد بشكل سريع قرر (ستامفورد) أن يحدد منطقة للجالية العربية (الحضرمية). وفي بيان لجنة الإسكان السنغافورية لعام 1822 جاء ما يلي: سوف يتم أخذ العرب ومتطلباتهم بعين الاعتبار، وأعتقد أنه من الأفضل أن يكون مقر إقامتهم بجوار مقر سكن السلطان". 

 

وليبيّن متغيرات الهجرة الحضرمية والانتكاسات التي تكبدها المهاجرون الحضارم في القرن المنصرم أدخل د. باصرة الهجرة الحضرمية في إطار أعم، زمانيا ومكانيا، وذلك في دراسة أعدها سنة 2010، شَمَلت هجرة أبناء الجنوب وأبناء اليمن عامة إلى شرق إفريقيا منذ قبيل الإسلام وحتى منتصف القرن العشرين، وكتب في نهايتها: "شهدت مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى هجرات يمنية حديثة إلى منا طق القرن الإفريقي، وعلى وجه الخصوص من حضرموت وعدن وتعز وزبيد. وكوّن بعض المهاجرين الجدد نفوذا تجاريا لهم في لعض مدن وموانئ إرتيريا وجيبوتي والصومال، وخاصة في زيلع وبربرا وأسمرة وكسمايو ومصوّع، واشتغل البعض الآخر بأعمال عضلية في تلك الموانئ أو على ظهر السفن التجارية بين الساحل الآسيوي والساحل الإفريقي للبحر الأحمر. وظل الكثير منهم على صلةٍ بوطنهم الأم، بعكس الذين سبقوهم في الهجرة في القرون الثلاثة السابقة لبداية القرن العشرين، فقد اندمج السابقون في المجتمع الإفريقي وذابوا فيه كما هو حال الذين هاجروا إلى بلاد الحبشة في التاريخ القديم". (الهجرة اليمنية إلى شرق إفريقيا حتى منتصف القرن العشرين)
 

كما تناول باصرة في هذه الدراسة إسهام الارتيريين من ذوي الأصول الحضرمية في حركة التحرر الوطني المحلية في الصومال واثيوبيا ضد الاستعمار الايطالي والفرنسي والإنجليزي، قبيل وبعد الحرب العالمية الثانية. وكتب: "لكن الجزاء لم يكن من نوع العمل، بل كان مغايراً لمعنى الوفاء، وخاصة في زمن الحرب، وبعد ظهور الدول الوطنية في بلدان القرن الأفريقي. فقد واجه العرب عامة والمسلمون خاصة، بعض الاضطهاد من قبل السكان المحليين بمن فيهم المسلمون، وشمل هذا الاضطهاد في بعض المناطق منع الهجرة وإيقاف التحويلات النقدية وتقليص فرص العمل أمام المهاجرين. واندمج البعض في مجتمعاتهم الجديدة وغادر البعض الآخر بلد الاغتراب وعادوا إلى وطنهم الأصلي اليمن. وقد زادت الهجرات اليمنية المعاكسة في عهد النظام الاشتراكي لزياد برى في الصومال والعهد الماركسي لحكم منجستو هيلا ماريام في اثيوبيا. وعانى المهاجرون الجنوبيون الأمرين بسبب جحيم الاشتراكية في وطنهم الأصلي وجحيم الاشتراكية في بلدان اغتراباهم. ومع هذا عاد بعضهم إلى وطنهم الأصلي حفاظاً على كرامتهم ولحماية أعراضهم، ونقل ما خف وزنه وغلا ثمنه من مدخرات العمر. وجاءت الحرب الصومالية الأخيرة واضطراب الأوضاع في اثيوبيا بسبب حرب الاستقلال الارتيري لتلقي بظلالها الكئيبة على المهاجرين القدامى والجدد، بل أن بعض المهاجرين ممن لم يعد يجيد اللغة العربية أو يتذكر أصله سعى إلى مغادرة جحيم الحرب بالذهاب إلى اليمن. وفي اليمن سعى بعض هؤلاء إلى البحث عن أصولهم القديمة". أ.د. صالح باصرة (الهجرة اليمنية إلى شرق أفريقيا حتى منتصف القرن العشرين).
 

 

ومن المعلوم أن مشاركته في الفيلم الوثائقي الطويل عن الهجرة الحضرمية وتحولها إلى أقطار الخليج العربي، الذي أعدته (قناة العربية)، كانت متميزة. وقد أكد لي أن لديه بحثا جاهزا عن المهاجرين الحضارم في الجزيرة العربية.
وإضافة إلى ما قام به أ.د. صالح علي باصرة في مجال البحث حول الهجرة الحضرمية، دأب –رحمه الله- على تشجيع الأساتذة الآخرين على الكتابة والترجمة حول الموضوع نفسه، وترجمة كل ما كتب عن المهاجرين الحضارم في مختلف اللغات الأجنبية. وقد قدم كافة التسهيلات للمرحوم الأستاذ محمد سعيد القدال ليترجم ما كتبه الهولندي فان دن ميولن عن حضرموت وعدن. وكتب مقدمة صافية لكتابي (الحضارم في الأرخبيل الهندي 2006) استعرض فيها العوامل التي اضطرت الحضارم إلى مغادرة أرضهم، وقال فيها: "كانت حضرموت من أكثر المناطق اليمنية الطاردة لسكانها، إذ خرجت منها موجات عديدة من الهجرات الجماعية والفردية لاسيما خلال القرون الثلاثة الأخيرة من عصرنا الراهن. وقد اتجهت تلك الهجرات إلى بقاع عديدة ومتباعدة في أرجاء المعمورة، ولكنها تركزت في الهند وجزر الشرق الأقصى وجاوه وشرق إفريقيا. ومع بدء عصر النفط تحولت الهجرة الحضرمية إلى دول الخليج العربي. ومن المعلوم أن الهجرات اليمنية عامة والهجرة الحضرمية خاصة قد جذبت اهتمام كثير من الباحثين والكتاب اليمنيين والعرب والأجانب. واهتمت بها كذلك معاهد الاستشراق في بريطانيا وفرنسا وبلجيكا والسويد وروسيا وألمانيا وذلك لأسباب عدة منها:

 

- ارتباط تلك الهجرات بنشر الإسلام في بعض مناطق إفريقيا وآسيا مثل إندونيسيا وسنغافورة والفيليبين وكينيا وجزر القمر، وارتباطها أيضا بالحركات المناهضة للاستعمار الغربي في تلك البلدان.
- قدرة بعض المهاجرين الحضارم على تأسيس مراكز نفوذ سياسية وإنشاء سلطنات خاصة بهم في أرض المهجر كما حدث في جزر الأرخبيل الهندي وشرق إفريقيا.
- قيام بعض المهاجرين بتأسيس مراكز نفوذ اقتصادية وتجارية ضخمة في بلدان المهجر مثل سنغافورة وإندونيسيا والمملكة العربية السعودية.
- دور المهاجرين في إحداث تغييرات سياسية واقتصادية مهمة في حضرموت واليمن بشكل عام، مثل إقدام القعيطي والكثيري على تأسيس سلطنتين في حضرموت، ونجاح أبي بكر بن شيخ الكاف في بدء حركة التحديث في حضرموت منذ مطلع القرن العشرين.
- قدرة المهاجرين الحضارم وأحفادهم على الانصهار في المجتمعات التي احتضنتهم، واستمرار بروز بعض العلاقات الوجدانية والأسرية مع وطن الأجداد.

 

وفي مطلع عام 1999، حينما شرعت في إعداد بحث عن (الهجرة الحضرمية إلى جنوب شرق آسيا) لأشارك به في ندوة (المغتربون: الرافد الأساسي للتنمية المستدامة) التي نظمها المجلس الاستشاري ووزارة المغتربين في الجمهورية اليمنية- صنعاء 15-17 مايو 1999، تبين لي أن كثيرا من المراجع المتعلقة بالبحث حول الهجرة اليمنية كتبت بلغات أجنبية مختلفة. واقترحت على الدكتور مسعود عمشوش أن يترجم كتاب (حضرموت والمستوطنات العربية في الأرخبيل الهندي) الذي ألفه باللغة الفرنسية - سنة 1886- المستشار الهولندي فان دن بيرخ. لكنه كان حينها عاكفا على تأليف كتابه عن (عدن في كتابات الرحالة الفرنسيين) وكتاب آخر عن (حضرموت في كتابات فريا ستارك).

وقد سررت جدا حينما قدم لي أخيرا هذا الكتاب عن (الحضارم في الأرخبيل الهندي) الذي يضم - بالإضافة إلى ترجمة كاملة للجزء الثاني والمهم من كتاب فان دن بيرخ- دراسة عن صورة المولدين الحضارم في الأرخبيل تكمن أهميتها في أنها تحتوي على قراءة تحليلية ونقدية لكتاب فان دن بيرخ وتعرية للمنطلقات الأيديولوجية التي اعتمدها في تأليف كتابه (حضرموت والمستوطنات العربية في الأرخبيل الهندي). وأعتقد أن الدكتور عمشوش قد وفق في طريقة تقديمه لنص فان دن بيرخ الذي يحتوي على كثير من المعلومات المثيرة للجدل، والتي ينبغي علينا جميعا الاطلاع عليها ودراستها ومناقشتها. كما يتضمن هذا الكتاب أول دراسة لكتاب (رحلة جاوه الجميلة) الذي يقدم فيه الشاعر المؤرخ صالح بن علي الحامد وصفا لجزيرة جاوه في الثلاثينات من القرن العشرين ورصدا دقيقا لحياة المهاجرين الحضارم المقيمين هناك. ويحتوي الكتاب كذلك على دراسة موجزة عن (فتاة قاروت) التي ألفها المهاجر أحمد عبد الله السقاف في جاوه سنة 1929، والتي يجمع النقاد اليوم على أنها أول رواية يمنية. وتصوّر هذه الرواية بعض الجوانب من حياة المهاجرين الحضارم في الأرخبيل الهندي، وتبين العراقيل التي كان المستعمِرون الهولنديون يضعونها حينئذ أمام المهاجرين الحضارم وأبنائهم المولدين الذين كانوا يسعون إلى الاندماج في المجتمع المحلي. ولا ريب في أن هذا الكتاب يعدّ مرجعا مهما سيستفيد منه الباحثون والمهتمون بدراسة الهجرة اليمنية بشكل عام؛ سواء كانوا مؤرخين أو سياسيين أو علماء اجتماع. وأتمنى أن يحذو جميع الأساتذة اليمنيين الملمين باللغات الأجنبية حذو الدكتور مسعود عمشوش، ويبادروا إلى ترجمة كل ما كتبه الأجانب عن اليمن.

فالصورة التي يرسمها لنا الأجانب يمكن أن تساعدنا على الكشف عن بعض مكوّنات تاريخنا وواقعنا الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وإبراز بعض الحقائق التي قد نتردد نحن في الإفصاح عنها بشكل مباشر". (الحضارم في الأرخبيل الهندي).
 

وفي مطلع عام 2014 صدرت عن (دار تريم للدراسات والنشر) الترجمة العربية التي قام د. عبد الله الكاف لكتاب (الشتات الحضرمي)، الذي ضم عشرين بحثا علميا قدمت في مؤتمر دولي نظم في لندن سنة 1995 حول الهجرة الحضرمية. وقد كتب الأستاذ صالح باصرة تقديما للترجمة قال فيه: "لقد جذبت الهجرة الحضرمية إلى بلدان جنوب شرق آسيا ودول شرق إفريقيا والقرن الإفريقي اهتمام الكثير من الباحثين العرب والغربيين. ومصدر هذا الاهتمام ليس الهجرة وحدها، لكن وكذلك ما رافق هذه الهجرة من نشر للإسلام في تلك البقاع عبر القدوة الطيبة والدعوة الصادقة للإسلام الوسطي والمعتدل والمحترم لمعتنقي الأديان الأخرى، وكذا للنفوذ التجاري والسلطوي الذي حققه الحضارم في بعض بلدان هجرتهم والذي مكنهم من الوصول إلى مراتب سياسية عالية، بل أن بعضهم أو بعض أحفادهم أصبح ملوكا وسلاطين لكيانات سياسية، خاصة في دول جنوب شرق آسيا. وبالمقابل تركت الهجرة تأثيرها أيضا في الكثير من مناطق حضرموت. ولا يزال هذا التأثير يفعل فعله في حياة الكثير من أبناء حضرموت، فنجده في العمارة والمائدة وبعض التقاليد الاجتماعية، وكذا في ملامح بعض سكان حضرموت. أنها ملامح الوجه الملايوي. وقد ترجمت جامعة عدن في فترة سابقة من مسيرتها العلمية كثيرا من الكتب المرتبطة بالهجرة الحضرمية، منها على سبيل المثال لا الحصر: (حضرموت وإزاحة النقاب عن بعض غموضها) للقنصل الهولندي في جدة فان دن ميولن، وترجمة د. محمد سعيد القدال، وكتاب (دور العرب في كفاح الشعب الأندونيسي ضد الاستعمار الهولندي) لحامد القدري، وترجمة زكي سليمان، وكتاب (تقرير حضرموت عام 1935) لهارواد أنجرامس وترجمة د.

سعيد عبد الخير النوابان. وقام د. مسعود عمشوش بترجمة كتاب (الحضارم والمستعمرات العربية في الأرخبيل الهندي) لفان در بيرخ، وطبعه على نفقته". ص8

 

 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

متعلقات