قصة قصيرة
نداء الحب - إبراهيم الحكيمي
السبت 12 يناير 2019 الساعة 06:31
الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة


 

كان يقف شاردا أمام نافذة الغرفة المطلة على الشارع الرئيسي الذي بدا كوجه شوهته البثور ممتدا على طول المدينة. والحفر الكثيرة المنتشرة على كل مساحته تصور عنف إطارات السيارات الذي يُمارس عليه دون رحمة. 
شعر بلمسة تهز كتفه. فزع عائدا من أفكاره الضاربة في كبد الخطر. 
- أحمد. بالك ليس معي اليوم! هل مللت مني بهذه السرعة؟ 
- أملّ! ومنك؟ لا يا حبيبتي. مستحيل. ليس الأمر كما فهمتي، لكن ..... 
فجأة رأت ملامحه تتشبع بلون الكرب والضيق. انتفضت والقلق كان قد انقضّ على ملامحها هي الأخرى بجزء من الثانية. وقفا متقابلين يدها تمسح على خده بحنان وفي عينيها علامة استفهام كبيرة. وسرعان ما عبثت كلتا يديه بضفائرها الليلية الناعمة وابتسامة كبيرة ترتسم على شفتيه. شعور بالرضى اجتاح صدره في تلك اللحظة وهو يرى خوفها الكبير عليه لمجرد شرود رصدته في أفكاره. 
- خيرا يا حبيبي! قالتها وهي تنتظر تفسيرا لما يمكن أن يكون قد ألمّ به كما تنتظر الأم لقاء وليدها بعد طول افتراق. 
- عشرون يوما مضت على زواجنا يا مرام. وهي أيام لو عشت ألف عام وحيدا لما وازتها جمالا وراحة ودلال. إلا أن ما ينغص عليّ هو أنه قد حان موعد الرحيل ولن أستطيع البقاء أكثر. ولا أعرف متى قد تكون العودة. 
- نداء الحرب إذا يا أحمد! 
- نعم يا مرام. هو نداء الموت الذي نرجو منه الحياة. 
- ولم عليك أن ترجو الحياة من نداء الموت؟ ابق معي، وسيسوق الله لنا رزقنا بعيدا عن خطر الزناد وفوهة المدفعية الجائعة التي تلتهم كل رمق ينبض. 
- كيف؟ وللواقع قول يخرس كل قول آخر. أمثالي لم تحالفهم النجاة في بقائهم هنا منذ اندلعت الحرب يا مرام. لم نطلبها نحن ولكنها أتت بارزة أنيابها بنية التهام كل شيء فوجدنا أنفسنا في دائرة اشتعالها، مضطرين لتأمين أنفسنا من شرها وانتزاع ما يقيم وأد حياتنا وأهلنا من قوافل الموت التي تسوقها. 
كان يتحدث بانفعال وكأنه يريد أن يسوق حجته إلى عقلها بالقوة. سيل من الدموع المندفق من مآقيها أعاده إلى هدوئه وعطفه من جديد. نظر إلى وجهها وكأنها السماء تمطر بعد قحط طويل. رقّ قلبه وتهشمت كل ملامح القسوة في فؤاده، لكن فكرة الرحيل لم تكن خيارا يستطيع تجاوزه. لقد كان أمرا إجباريا وإلا تراه من أين سيطعم أهله أو من أين كان له أن يتزوج لو لا أنه كسب مهر زواجه من جبهات القتال. 
وضع حقيبة صغيرة على كتفه مع بزوغ فجر اليوم التالي وهمّ بالرحيل. كانت منشغلة في جمع حاجياته الصغيرة. لم تتوقف عن الحركة وهو جامد كحجر أمام الباب كأنه يبحث عن طريقة للوداع تترك زوجته بأقل وجع ممكن. وقفت أمامه وهي تدرك أنها ربما تكون الوقفة الأخيرة. 
هل نسيت شيئا؟ تأكد من الآن. سألت وهي تقاوم انفجار عبراتها. أمسك بيدها بلحظة بدت له أثقل على قلبه من لحظات اشتداد المعارك. التقت عيناه بعينيها فنسفت ما تبقى من مقاومتها وانهارت باكية. خرج هو مسرعا بصمت دون أن يفتح فمه بكلمة واحدة. خرج قبل أن ترى دموعه المنسكبة على خديه بصمت عاجز وهرعت هي إلى النافذة لتشيعه بنظراتها حتى لفظه الحي خارجا إلى طريق المجهول.

أسبوع مرّ على رحيله. بدت لها المدة طويلة جدا والقلق أخذ يستشري في كل مساحة قلبها. أمسكت الهاتف للمرة الألف بعد عدة آلاف من المحاولات وضغطت بيأس على أيقونة "اتصال" لا وصول إلى هاتفه. انكفأت على ذراعيها وبكت كمن فقد كل ما يملك بلحظة مفاجئة. 
بضع دقائق مضت قبل أن تنتفض على صوت رنة الهاتف: ضغطت زر الإجابة دون أن ترى من المتصل: 
- أحمد! صرخت. وعاد الإحباط يلتهم حيويتها بشكل أكثر شراسة بعد أن سمعت صوتا غير صوته. ذبلت وسقط جسدها على الأرض من فرط إنهاك حواسها بالتفكير. 
في الجانب الآخر كان الوضع مأساويا. لا صوت سوى صوت انفجارات المدافع وأزيز الرصاص. ولا شعور يطغى على شعور الخوف في قلوب المقاتلين. نيران الخصوم كانت تضرب بعنف شديد وأحمد ورفاقه مستلقين خلف المتارس. والبعض بدأوا يركضون هروبا بعد أن أدركوا في تلك اللحظة العصيبة أن حياتهم أثمن من المال الذي يتقاضوه مقابل خروجهم لجبهات القتال. خفت المعركة قليلا، لكنها لم تنتهي. بل هكذا هي استراحات المحارب، تنقضي ثم تعود النار تلتهم كل شيء. اشتبك الخصمان من جديد. في تلك اللحظة كان أحمد ورفاقه يركضون خارج منطقة الخطر. فكروا كثيرا لم يجدوا ما يستحق القتال لأجله. لقد أدركوا في لحظة فارقة بين الحياة والموت أنهم أحجار على رقعة شطرنج كبيرة. كان خيال "مرام" يكتسح خاطر أحمد وحواسه وهو يركض بأقصى قوته على الرمال. ألقى كل ما بيديه من أدوات الموت لتزداد سرعته وركض كما لم يفعل من قبل. صرخوا خلفه "جبان" ودوا لو يصلبوه. لكنه لم يكترث. هو يدرك ماذا أنجز على أرض المعركة منذ التحاقه. وهو آخر من خاف على نفسه من الموت. لكن شيء ما مختلف فيه هذه المرة. لقد أصبح يخاف ولكن ليس على نفسه، بل على من هو أعز منها. هكذا فكر أحمد وقدماه مطلقتان للريح. حين وصل إلى أطراف الشارع المطلّ على الحي الذي يسكنه. شعر بالأنس لأول مرة وأخذه الشوق حتى لتلك الحفر التي رآها تزين الشارع وتميّزه. انطلق كالسهم نحو منزله وفي تلك اللحظة كان تأثير الحب كشلال يسحق كل ما تبقى من فكرة الحرب في عقله ووجدانه. وكانت مرام هي الفكرة الوحيدة التي تعبث بخاطره.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

متعلقات