الأعمى - وجدي الأهدل
الأحد 13 يناير 2019 الساعة 16:47
الرأي برس - أدب وثقافة

 

 

قال جدي: في القرية المجاورة كان يسكن اليهود، وفي صغري كنت أحب اللعب في قريتهم، وكان لي من بينهم صديق أثير اسمه (شمعون)، لم يكن في مثل عمري، بل هو شيخ ذو لحية طويلة ولا أعرف كم كان عمره. كان يعطف عليّ ويطعمني، لأنني كنت يتيماً بلا أب وأبدو هزيلاً وعظامي تخزي العيون ببروزها. كنت بعد أن أتعب من اللعب مع أقراني أذهب للجلوس بقربه تحت شجرة طنب وارفة الظلال. كان يقضي معظم ساعات النهار مستنداً بظهره على جذع الشجرة، ويدير شؤون حياته كلها من هناك. يكسب قوته من المسلمين واليهود الذين يأتون إليه طلباً للاستخارة. لم يكن محتاجاً للورقة والقلم إذ كان يجري حساباته التنجيمية في دماغه ويعطي للسائل الجواب المطلوب. أحياناً تأتي نساء اليهود ليثرثرن معه ويخدمنه، وفي أحايين أخرى ينكب على قراءة كتبه العبرية ويغيب عن العالم الذي يحيا فيه. تزوج ولم ينجب، دام زواجه ثلاثين عاماً ثم توفيت زوجته في جائحة الجدري. كان يسألني عن دروسي في المعلامة (المدرسة) ويمتحنني، يطلب مني أن أكتب على اللوح أسماء الأشجار والحيوانات والأماكن، ويتجنب امتحاني بكتابة أسماء البشر لسبب لا أعرفه. عندما كنت أتلو عليه ما حفظته من آيات القرآن كان يبدو عليه التأثر وتدمع عيناه.

انطبعت ملامحه في ذاكرتي ولم أنسها وكأنها ملامح أبي الذي لم أره: جبهة عريضة وحاجبان كثيفان بارزان للأمام دون انحناء، عينان سوداوان غائرتان في محجريهما، أنف كبير تحته شفتان ممتلئتان تامتا الاستقامة، وعندما يبتسم يرتفع طرف شفته العليا قدراً يسيراً. شعره ناعم أسود يخالطه اللون الرمادي ويتدلى زناران من فوديه، ويضع على رأسه كوفية صغيرة. بشرته سمراء، متوسط القامة وسمين. أسرَّ لي مرة أن أمه جنية! لقد صدقته وإلا كيف كان يعرف الغيب؟!

في لحظات الصفاء كان يخبرني عن الأحداث التي ستقع في المستقبل.. أخبرني عن أدوار الدول التي ستحكم العالم من ساعة كلامه وحتى الألف عام القادمة. قال إن اليهود سيخرجون من اليمن ويرحلون إلى أرض الميعاد ثم سيعودون لاستخراج الكنوز.. سألته هل يوجد شيء منها في جبالنا، أشار إلى جبل طالع من الأرض كقرن الثور وقال: “في جبل هشيمع يوجد كنز عظيم”. قلت له: “لماذا لا تذهب إليه وتستخرجه؟”. سحب زفرة من أعماق ضلوعه وقال: “ذلك

هو المكان الوحيد في الدنيا الذي لا أرغب في الذهاب إليه”. قلت له مستغرباً: “لماذا؟”. صمت برهة عن الكلام وأخذ يتأمل الجبل من أسفله حتى أعلاه ودبيب الناس والدواب في دروبه المتعرجة بين المدرجات الزراعية والمراعي الوعرة وأحجامهم تشبه النمل ـ قرانا كانت في جبل أكثر ارتفاعاً وأما جبل هشيمع المواجه لنا فكان منخفضاً ما يسمح لنا أن نرى بسهولة البيوت وساكنيها وكل طالع أو نازل من الجبل ـ قال صديقي شمعون جوابه الذي لن أنساه ما حييت: “لأنني أموت هناك”. صدمني جوابه ولم أشك مطلقاً في صدق كلماته، وشعرت بخوف يسري في دمي من جبل هشيمع حتى إنني كنت أرتعد من مجرد النظر إليه.. زالت غشاوة العادة عن عينيّ ولاحظت لأول مرة أن جبل هشيمع يبدو مائلاً بصورة واضحة، وتساءلت كيف أن الناس لا يتساقطون إلى الأسفل؟! بدا لي ساعتها مهيباً وجليلاً وهو يرتدي مئزر الغموض والأسرار.

في يوم من الأيام قال لي شمعون إنه قام بحساب نجمي (طالعي) ثم أخبرني عن مستقبلي. ضحك عندما أخبرني أنني سأمتلك جميع بيوت اليهود وأراضيهم وعلق ساخراً: “لو أخبرتهم بأن هذا الولد الصغير المهلهل الثياب الذي يكاد يموت من الجوع ستصير إليه قريتهم لاتهموني بالجنون”. نظر إليّ مطولاً ثم قال: “هذه القرية عاش فيها اليهود منذ مئات وربما آلاف السنين.. انظر إليها كم هي جميلة وبيوتها شامخة متينة البنيان.. إذا صارت إليك أرجو..” لم يتمكن من إكمال جملته لأنه شهق بالبكاء وانهمرت دموعه.

كان كلامه صحيحاً، فبيوت اليهود كانت مبنية على يد بنائين محترفين، الجدران مستوية لا اعوجاج فيها، وأحجار البناء مصقولة ومتراصة كالقوالب لا شقوق بينها.

مرت سنوات بسرعة البرق وصرتُ شاباً أتفجر بالطموح والرغبة في رؤية أرض الله الواسعة، سافرت إلى الحبشة ومكثت هناك عشرين عاماً ثم رجعت إلى قريتي ومعي مبلغ جمعته من تجارة الجلود. زرت صديقي شمعون وجلبت له عطراً ثميناً ـ لأنه كان يحب التعطر ـ فلقيته جالساً تحت شجرة الطنب كعادته، ولما ذكرته بنفسي هبّ لمعانقتي. كان الزمن قد ترك آثاره القاسية عليه، فصار هرماً ناحل العود، محدب الظهر، ويمشي ببطء متوكئاً على عصا وقد شاب شعره وفقد بصره. استعدنا سيرتنا الأولى، وكنت أزوره كل يوم وأحكي له النوادر والعجائب التي استجدت في العالم، وأروي له مغامراتي في سهول وجبال إفريقيا. لم يعد أحد يطلب خدماته فتدهورت أحواله. كنت أتفقده وأتلطف في إحضار طعام يوافق فمه الأدرد. وما هي إلا أشهر

قليلة حتى ارتجت اليمن بالأخبار عن قرب رحيل اليهود وسفرهم إلى فلسطين. أمسكتُ مدخراتي ولم أنفقها، وتذكرت كلمات صديقي شمعون. مر عام ولم يستجد جديد، ثم فجأة تحرك أعيان اليهود وعرضوا بيع أملاكهم، كانوا مستعجلين جداً، وشاعت أخبار بأن باخرة كبيرة تنتظرهم في ميناء الحديدة. كان في الجبل من هم أغنى مني بكثير، ولكن وقتها لم تكن الأموال حاضرة في أيديهم، فقبل اليهود عرضي ودفعت لهم نقداً كل ما ادخرته من ريالات ماريا تريزا الفضية.

بعد يومين من إتمام الصفقة وفي غبش الفجر تجمع اليهود في ساحة القرية، وحمّلوا متاعهم على ظهور الحمير والبغال، ثم رحلوا في قافلة حزينة يحثون الخطى وهم يخشون أن تفوتهم الباخرة. لم يخبروا أحداً بموعد سفرهم، ولا حتى أنا الذي اشتريت منهم بيوتهم وأراضيهم. لقد أخلوا قرية (ربيخ) فجأة ولم يُر أحد منهم بعد ذلك أبدا. قرب الظهيرة وصلني الخبر المؤلم.. لقد وجدوا جثة صديقي شمعون في جبل هشيمع، وبالضبط في ذلك المكان الذي أشار إليه بسبابته قبل ثلاثين عاماً. قيل إنه كان يمشي في آخر القافلة وأخطأ الطريق فاتجه إلى جبل هشيمع، وحين ألفى نفسه وحيداً ضائعاً صرخ ينادي قومه فلم يجاوبه أحد، كانت القافلة قد ابتعدت، فانفطر قلبه ومات. ذهبت مع الرسول فوجدته ممدداً على ظهره وعروق زرقاء نافرة من جبينه وطرف شفته العليا مرتفع إلى الأعلى وعيناه مفتوحتان. بصعوبة انتزعت العصا من كفه التي كانت تقبض عليها بإحكام. كان معه جراب من قماش معلق بكتفه الأيمن ويتدلى إلى جنبه الأيسر، أفرغته فإذا فيه كتب بالعبرية، واحد منها فيه أشكال هندسية وخرائط مثيرة للاهتمام، ندمت لأنني لم أتعلم هذه اللغة بمعونة صديقي، بوفاته كانت فرصتي الوحيدة للتعلم قد ضاعت. ولأنه لم يعد له أحد سواي فقد توليت أمر غسله وتكفينه ودفنه. وبالنسبة للكتب فقد قررت في نهاية الأمر أن تدفن معه. جرى الأمر كما تنبأ لم ينقص منه حرفاً أو يزد.

منقولة من موقع صدى نت ..

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

متعلقات