مقدمة كتاب (من هؤلاء تعلمتُ؛ سيرة ذاتغيرية) للدكتور إبراهيم أبو طالب
الاثنين 19 ابريل 2021 الساعة 13:14
الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة


المقدمة 


الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وهو القائل في محكم التنزيل رافعًا شأن الإيمان والعلم: ﴿يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾، ومؤكدًا على الذِّكرِ الجميلِ، بعد الحياة، بقوله تبارك وتعالى: ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ﴾.
والصَّلاةُ والسَّلامُ على النَّبي الأعظم، والمعلم الأكرم ﷺ، القائل: "مَن سَلَكَ طَريقًا يَلتَمِسُ فيهِ عِلمًا سَهَّل اللهُ لهُ بهِ طَريقًا إلى الجنَّةِ". رواه مسلم. والقائل فيما رواه الترمذي: "إنَّ اللهَ وملائكتَهُ، وأهلَ السَّماواتِ والأرضين، حَتَّى النَّملة في جُحْرِها، وحَتَّى الحوتُ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعلِّمِ النَّاس الخير"، وهو الذي علَّمنا الشُّكرَ، والوفاءَ بقوله: ﷺ "مَن لَا يَشكُر النَّاسَ لا يَشكُر اللهَ"، وعرَّفنا كيف نؤدِّي الواجبَ، وكيف نقومُ بالحقِّ، بقوله ﷺ: "مَن صَنَعَ إِليكُم مَعروفًا فَكَافِئوهُ، فَإنْ لم تَجِدُوا مَا تُكَافِئوهُ، فَادعُوا لَهُ حَتَّى تَروا أَنَّكُم قَد كَافَأتُمُوهُ".

 

أمَّا بعد:
فقد بَدأتْ فِكرةُ هذا المشروع في نشر ثلاثِ حلقاتٍ منه على صفحتي في الفيسبوك، وأعلنتُ فيها أني سأكتبُ عن أساتذتي، ونشرتُ أولَى الحلقات في شهر نُوفمبر من عام 2017م، وشرحتُ الفكرةَ بهذه الكلمات: 
"الأصدقاءُ الأجلاءُ، السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هذا مشروع أشتغلُ عليه منذُ فترة تحت عنوان: (#من_هؤلاء_تعلمتُ...#سيرة_ذاتغيرية)، وفكرتُه تقومُ على رصدِ بعضٍ مما تعلمتُه من أساتذتي الأجلاء في جوانب الدَّرس العلمي أو الخُلق الإنساني أو التعامل الحياتي بمختلف آفاقه كشهادة أقدِّمها في قراءةٍ سريعةٍ، وعباراتٍ موجزةٍ، ووقفاتٍ نابضةٍ، تطمحُ إلى بيان بعض صورهم في مرآة الذات.. وإليكم أولى الحلقات مع أستاذنا، وأستاذِ الأجيال، ورائد التنوير في اليمن الأستاذ الدكتور عبد العزيز المقالح...".
وتوقفتُ عند الحلقة الثالثة -في النشر على الفيسبوك- لمدة عام تقريبًا، ثم نشرتُ دراسةً قَصيرةً في مجلة (أقلام عربية) عن مجموعة القاصَّة لارا الضراسي (زرقاء عدن)، وبعدها تواصلتْ معي رئيسةُ تحرير المجلة: الشاعرة سمر عبد القوي الرُّمَيمة، وكذلك مدير التحرير: الشَّاعر مختار محرم -وهو بالمناسبة أحد طلَّابي الذينَ درَّستُ لهم في مدرسة ثانوية عمار بن ياسر، بصنعاء- وطلبوا إليَّ استمرار الكتابة في المجلة بشكلٍ شهريٍّ، وبأيِّ موضوعٍ أقترحهُ، فعنَّ لي أن أطرح فكرةَ هذا المشروع، وأن أشرع فيه، فرحَّبا بالفكرة كثيرًا، وبدأتُ أُسلسلُ الحلقات بانتظام ابتداءً من العدد (23) شهر سبتمبر 2018م، واستمر لحولين كاملين حتى العدد (47) شهر سبتمبر 2020م.
ولا شكَّ أنَّ هذا المشروعَ الطامحَ قد ألزمني الكتابةَ بعد ذلك كُلَّ شهرٍ إلزامًا، والتزامًا للمجلة، وللقراء الأجلاء، وقد فعلتُ؛ على الرغم من مشاغلَ عدَّةٍ كانت ربما تحول دون الاستمرار، لولا ذلك الالتزام الأدبي، والدافع المعنوي والإنساني، فمضيتُ -بحمد الله وتوفيقه- أقدِّمُ في كلِّ عددٍ أستاذًا ممن تلقَّيتُ التعليم على أيديهم في قاعة الدرس بشكل مباشر في مراحل دراستي الجامعية الأولى، والعليا حتى الدكتوراه، وكنتُ محظوظًا بأن أتيحَ لي التَّتلمذ على يدِ أعلامٍ كبارٍ من أساتذة الجامعات في الوطن العربي من اليمن، ومصر، والعراق، وسوريا، والجزائر، وغيرها؛ حيثُ حظيتُ بالتَّلقّي والتعلُّم على يدِ عددٍ كبيرٍ من الأساتذة والأعلام الكبار في دراستي في اليمن السَّعيد، ثم في مصر المحروسة. وكانت الفترة التي تلقيتُ فيها ذلك التعليم تمتدُّ من عام 1989 حتى 2008م، أي خلال عقدين من الزمان تقريبًا، وكانت هذه المرحلة قد شَهِدتْ فيها اليمنُ استقرارًا نسبيًا، ولكنَّها في الوقت ذاته قد مرَّت بأهم مراحلها ومنعطفاتها التاريخية والسياسية المعاصرة، وهي مرحلة (تحقيق الوحدة اليمنية)، وما تلاها من أحداث عام 1994م، ثم ما تبعها من استقرار وتطوُّر في مجالات الحياة، ومنها مجال التعليمِ العالي، والمنَحِ الدراسية، فكان لي -كما كان لغيري من طلاب العلم- فرصة السَّفر، والدراسة في جمهورية مصر العربية مُبتعثًا من جامعة صنعاء بوصفي أحد منسوبيها، والمعيدين فيها.
في تلك الفترة الزمنية الدراسية التقيتُ بعددٍ كبيرٍ من الأساتذة والأعلام الذين كانَ لهم -بعد الله عزَّ وجلَّ- الفضل في تشكيلي المعرفي، وتكويني العلمي، وتوجهاتي النقدية والأكاديمية على اختلاف مدارسهم الفكرية، ومشاربهم المعرفية، ومكانتهم العلميَّة، وقدراتهم الأكاديمية، فأردتُ الكتابة عنهم ردًا لبعض فضلهم، وإزجاءً للشكر لهم، وبيانًا لما احتفظتْ به الذاكرةُ عنهم من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى لتسجيل التاريخ المعرفي والمستوى التعليمي الذي كان يُقدَّمُ خلال تلك الفترة الزمنية من العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين الميلادي.

 

وبذلك أقوم بالحديثِ عن تجربتي معهم من خلال ما يسمَّى بأدب السيرة الذاتية، ولكن بما أنَّ هذا الأدب يعرفه النقادُ بأنَّه على نوعين: (سيرة ذاتية، وسيرة غيرية)، وكلا المصطلحين معروفُ الدلالةِ، مستقرُّ المعنى إلى حدٍّ كبير، فالأوَّل: سيرة عن الذات بكل ما في ذلك من حديث، وسرد، ومعلومات لا تخرج عن حدِّها التاريخي والواقعي، ومنطقها المتركِّز والمتمركز حول الذات. والآخر: هو ما يكتبُه شخصٌ ما عن شخص آخر بقصد وضع سيرته موضع التركيز، والبيان، والتوضيح، وفق وجهة نظره الخاصة، وطريقة تعبيره، وغايته من الكتابة. 
ولكن مشروعي هذا قد يلتقي مع تلك الكتابات في جوانب معينة، ولكنَّه يسعى من جوانب أخرى إلى أن يختلف عنها اختلافًا مقصودًا لذاته؛ أردتُ فيه أولًا أن أجترحَ مصطلحًا جديدًا، حاولتُ تكريسَه على مستوى العنوان، وعلى مستوى البناء، والمضمون، وهو مصطلح: (سيرة ذاتغيرية) بأن أجمعَ بين سِيرتي الشخصية من خلال سيرة الغير، وهم -هنا تحديدًا- أساتذتي الذين تعلمتُ على أيديهم، وفي الوقت ذاته أعرض أبرز ما في حياتهم العلمية والإنسانية من جوانب معرفية ودلالات مختلفة، كما انعكست في مرآة الذاتِ، واستقرَّت في وعيها من خلال المشاهدة والمعايشة، وذلك بالربط بين الذات والغير في آن واحد. 

 

وقد حرصتُ على مستوى كتابة المصطلح أيضًا أن يكون مترابطًا في المفردتين (ذات + غير) وكأنهما كلمة واحدة (ذاتغيرية) وصفًا لسيرة، فصارت (سيرة ذاتغيرية)، وحين ناقشني فيها بعضُ الزملاءِ ممن تابعوا المشروع، واهتموا به مقترحين فصل الكلمتين أو أن تكون (غيرية ذاتية) أو (ذاتية وغيرية) أو غيرهما من المقترحات، ولكني أوضحتُ لهم القصد بأنَّ هدفي هو الربط بينهما من خلال رؤية الغير في مرايا الذات، وحضور الذات في عالم الغير، والتعبير عن (الذات والغير) بامتزاجٍ لا يعني تجاهل أحدهما أو طغيانه على الآخر إلا بقدر بيان أثر الأستاذ في الطالب، وتوضيح أثره -أيضا- في الميدان المعرفي والعلمي الذي يشكِّل مشروع الأستاذ، وخلاصة تجاربه وأعماله بقدر المستطاع في البيان من زاوية نظر الطالب المتابع، والقارئ المهتم.
ومن هنا جاءت عبارة (تعلمتُ مِن أستاذي) بوصفها التيمة الحاضرة، أو (الموتيف) المستمر والمتكرر في جميع المقالات التي شكَّلت هذا (المشروع/الكتاب)، وفي الوقت ذاته فإنَّ هذا المصطلح، وإن لم يكن شائعًا من قبلُ -بحسب معرفتي وعلمي- ولا أظنّني أخذتُه عن أحد، أو قرأته في كتاب، فقد حاولت صَكَّه، واجتراحَهُ ابتداءً حتى يكونَ مبتدأ خبره هذه المقالات متفرقةً (في المجلة)، ثم مجموعةً (في هذا الكتاب)، وبوصفه مشروعًا سِيَريًّا في هذا الفنِّ من أدب السِّيرة الذاتية، الذي أصبح حاضرًا على مستوى السرد الحديث، وتنويعاته الكثيرة والمختلفة، وليكن من تنويعاته التي تأخذ من السرد روحَهُ، ومن المقال جَسَدَهُ، أو بعبارة أخرى، هو سردٌ على طريقة الرسائل الأدبية التي كان قد اختطَّها أدباءُ العرب القُدامى، ومارسها روادُ الأدب المعاصرين أو قريبةً منها، لعلنا بذلك نتشبه بالكرام؛ حيثُ التَّشبُّه بالكرامِ فلاحُ.
ثم اتخذتُ لها من البداية هذا العنوان (من هؤلاءِ تعلمتُ) مع وجود بدائل متعالقة به مثل: تعلمتُ من هؤلاء، وهؤلاء علموني، وهؤلاء تعلمتُ منهم... وغيرها، إلا أني فضلتُ استخدام التقديم للجار والمجرور للاهتمام به، وتخصيصه بالتقديم للحصر والقَصر كما يراه علماء البلاغة، ويؤكِّدون عليه في دلالة المعنى. 
ثم وَضَعتُ له هذا الـ(هاشتاق) -بلغةِ التقنية المعاصرة- أو الوَسْمَ الخاص به، وهو العنوان الرئيس: (#من_هؤلاء_تعلمتُ) والآخر العنوان الفرعي: (#سيرة_ذاتغيرية)، ليسهل على القارئ أو الباحث الوصول إليه عبر صفحات الفيسبوك، ويسهل جمع تلك المقالات بعضها إلى بعض لمن يرغب في الاطلاع عليها مجتمعة بعد ذلك، هذا فضلًا عن نشرها نشرًا إلكترونيًّا على مدونتي الشخصية مصحوبة بالكثير من الصُّور للأساتذة، والكتب، واللقاءات، وغيرها، مما تُعزِّز فيه الصورة من ذلك الحضور، وتوضِّح المعنى ما أمكن إلى ذلك سبيلًا.
وأرجو أن أكونَ قد وفِّقتُ في هذا المشروع، أو حسبي الاجتهادُ في المحاولة، وتكريس المصطلح، وإن لم أوفَّق في جعله مصطلحًا شائعًا الآنَ، فلعلَّه يتحققُ ولو بعد حين، وربما يكون في المستقبل مصطلحًا شائعًا، يشير إليه الباحثون، ويستخدمه الدارسون، وهذه المحاولة تمضي وفقَ مبدأ (على المرء أن يسعى إلى الخير جهده...)، وليكن لي فيه فضلُ السبق إلى إنشائه، وإعلانه، وتكريسه من خلال هذا المشروع.
وقد يقول قائل: لمَ كلُّ هذا التكلُّف في الاهتمام بمصطلح (سيرة ذاتغيرية)، والحديث عنه، وعرضه هنا؟ 
فأقول: إن المصطلحَ مفتاحُ المشروعِ وهدفُه من ناحية، وهو يقرِّبُ الفكرةَ، ويحوِّط الدلالةَ، ويسيِّجها بسياج علمي من ناحية أخرى، فيضعُها في مجالها المعرفي، ويختصر الكثير من القضايا في هذا المصطلح المقصود، وذلك شأن المصطلحات عمومًا.
يحتوي هذا الكتاب على عدد: أربعة وعشرينَ أستاذا وعَلَمًا وعَالمًا من أعلام الأدب والنقد واللغة والفكر، من أساتذة الجامعات في اليمن، والوطن العربي الذين أقدِّمُ شَهادتي المتواضعة عنهم، وأقدِّم علاقتي العلمية المباشرة بهم؛ دون تكلُّف أو مبالغة، ودون إغفال لمنجزهم أو تجاوز لأهمِّ ما يميِّز جهودهم العلمية من الكتب والبحوث والدراسات، والمناصب الإدارية، والقضايا العلمية، والمواقف الإنسانية، والمكانة الاجتماعية والمعرفية في أوطانهم وخارجها، وفي مسيرتهم العلمية، وسيرتهم الذاتية، وقد وَقفتُ على ما رأيتُهُ منهم بوصفي شاهدَ عَيانٍ، يرصد بعينِ الطالب المحبِّ، وروح المريد التابع، وأفق المستفيد المهتم كما سبقت الإشارة.
وختمتُ كُلَّ مقالٍ بما أسميتُه (فصل الخطاب)، وهو مقتطف من حديث الأستاذ نفسه، أو من عباراته أو من شعره المأخوذ من أحد كتبه أو أبحاثه أو مقابلاته الصحفية أو غيرها. ووضعتُ في نهاية كل مقال (تحيةً) صُغتُها شعرًا لأضع فيها رسالة الأستاذ، أو أبرز ما يميِّزه، أو يضيء بعضًا من ملامح شخصيته، وجهده في قالب شعري، لعلَّها تحمل المشاعر نحوه، وتلخِّص الغاية من الخطاب.
وقد حرصتُ في شهادتي هذه على أن تكون شهادةً صادقةً، رأيتُ من واجبي أن أقولها، ومن الوفاء لأساتذتي أن أكتبها، بما يليقُ بمقامهم، وبأسمائهم الكبيرة ذات المكانة والتقدير، لأني أرى أنَّ من أعظم البرِّ أن نَبرَّ أساتذتنا، ومن الحقِّ لهم علينا أن نحقِّق ذكرهم، ونرفع قدرهم في كل وقت وحين، فلا يشكرُ اللهَ من لا يشكرُ النَّاسَ، فما بالكم إذا كان هؤلاء النَّاس ليسوا أيَّ أناس، بل ليسوا كالنَّاس العاديين، ممن قد يمر بحياتنا مرورًا عابرًا، إذ الأستاذُ قيمةٌ غاليةٌ، وقامةٌ عاليةٌ، وخلقٌ رفيعٌ، وقدرٌ بديعٌ؛ بل هو جزءٌ من تكويننا، فإذا كان للأب فضل الإنجاب والتربية الأولى، فإن للأستاذ فضل التهذيب والتعليم والتربية الأخرى، جاءَ في كتابِ محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني: "قيل للإسكندر: إنك تعظِّمُ معلِّمكَ أكثر من تعظيمك لأبيك. فقال: لأنَّ أبي سببُ حياتي الفانية، ومؤدِّبي سببُ الحياة الباقية".
 وقيل: "لا يستخف أحدٌ بمن تعلَّم منه علمًا إلا وضيعٌ خاملٌ أو رفيعٌ جاهلٌ". 
والأستاذُ صانعُ العقولِ وفاتحها، وهو من يمدُّها بأهمِّ غذاءٍ، وبأجلِّ أثرٍ، وأنفعِ ثراء.
وكما يقول شوقي:
أرأيتَ أَفضلَ أو أجلَّ مِن الذي   يَبني وَيُنشئُ أنفسًا وعُقولا
وأقولُ: 
إن المعلِّمَ ليسَ شخصًا عابرًا   في عيشِنَا حتى يُقالَ لهُ: لمهْ؟
هو روحُنا هو بيننا مُتجذِّرٌ   نَفسٌ بآلافِ النُّفوسِ مُقَسَّمَة
وهذا شيءٌ بسيطٌ من الذِّكرِ الحسن، والكلمةِ الطيبةِ، وردِّ الجميلِ -الذي لا يمكنُ رَدُّه تمامًا- ولكنَّه -على الأقلِّ- طرفٌ من الذكرى، وبعضٌ من قول: (شكرًا لكم) أو (جزاكم الله خيرًا). فالذكرى لأساتذتنا نوعٌ من البرِّ؛ لأنَّك على قدر ما تُعطِي ستأخذُ، وكما تدينُ تُدان:
 (#برُّوا_أساتذتكم_يبرُّكم_طلابكم). فالأمرُ محسومٌ، والقصدُ معلوم، والجزاء من جنس العمل، وتلك سُنَّةٌ من سُننِ الكون، وقاعدةٌ من قواعد الحياة التي لا يمكنُ الاختلاف عليها بأيِّ حالٍ من الأحوال.
وَقد وَجَدَتْ هذه الحلقات خلال نشرها الكثيرَ من ردود الأفعال الطيبة، والأقوال الكريمة من زملاء، وأصدقاء، ومن أساتذة أجلاء، ومن قراء، ومتابعين أعزاء؛ مما كان يزيدني إصرارًا على المواصلة، والمثابرة على تقديم المفيد والنافع، وعدم الوقوع في التكرار أو الاجترار، أو ما قد يَحسُّ معه القارئ بالملل أو بأنَّه صار يَعرفُ ما سأقوله قبل أن أقولَه، وتلك لعمري آفةٌ من آفات الكتابة.
ولعلَّ من أفضل ردودِ الفعلِ التي تلقيتُها بعد نَشرِ المقالات في المجلة، وكذلك على مدونتي الشخصية، وعلى صفحتي في الفيسبوك، أو على وسائل التواصل الاجتماعي الأخرى مثل تويتر، والواتساب، -وسأعرض لبعضها في ختام هذا الكتاب- وذلك لكمال الفائدة، ولبيان الأثر أو ما يسميه علماء التربية والنَّفس بـ(التغذية الراجعة) من ردود فعل القُراء وأقوالهم مشكورين مقدَّرين، وكلٌّ بمكانته العالية، ومقامه المحفوظ. 
أقول لعلَّ من أفضلها -وكلها فاضله- هي ردود فعل أساتذتي- أمدَّ اللهُ في أعمارهم، ونفع بهم، وبعلمهم، وبحياتهم، ورحمَ اللهُ من غادرنا منهم، وغفر لهم أجمعين- حيثُ تلقيتُ كلماتهم الدافعة المشجِّعة، وعباراتهم الودودة الغامرة، بكلِّ اعتزاز ومحبَّة. 
ويا لهم من عظماء! تعلمتُ منهم الفضلَ والخيرَ، والذوقَ، والصِّدقَ، والجمالَ كما تعلمتُ منهم -من قبلُ ومن بعدُ- العلمَ والمعرفةَ والدَّرسَ، وممن كَتبَ مُعلقًا أو مراسلًا على الخاص، بل وإنَّ البعض منهم قد اتصل بي هاتفيًا، وهم أساتذتي العظماء: د. كمال أبو ديب، د. خيري دومة، د. عبد الله المقالح، د. السَّيد إبراهيم محمد، د. عبد الله البار، د.عبد الوهاب راوح، د. أحمد علي مرسي. ومما قاله الدكتور أحمد علي مرسي -حفظه الله- فأبكاني برسالته الصوتية عبر (الماسنجر)، حين وصله المقال، فأرسل إليَّ رسالةً بليغةَ الأثرِ عظيمةَ القَدرِ، وهو في أحد المشافي في (إسبانيا) يتلقى العلاج من مرض السرطان- شفاه الله وعافاه- فقال: "أنا دمَّعت، وأنا أقرأ ما كتبته، والشُّكر يا إبني لا يوفِّيكَ حقَّك يا أصيل! أشكرك على وفائك، وليس هذا تواضعًا، فأنا لا أستحقُّ كلَّ هذا الذي كتبتَه عنِّي، ولكنَّك كتبتَ بعين المحبِّ... وأنا أتعالج من مرض السرطان، ولكني بحمد الله بخير، وقد أخذتُ خمسَ جرعات، والروح المعنوية مهمة جدًا لمقاومة هذا المرض وتقوية المناعة، وهذا الذي كتبتَه -يا إبراهيم- يساوي لديَّ طنًّا من العلاج لتقوية المناعة، فقد أثرتَ فيَّ، وهي دافعٌ للحياة التي تستحق أن نعيشها لأنَّ فيها أوفياء من أمثالك، وبأن عُمر الأستاذ لم يذهب هَدرًا..."الخ رسالته المؤثرة الصادقة، هذه العبارة جعلتني أبكي أنا أيضًا، وأشكرُ اللهَ أن ألهمني أن أقدِّم لأساتذتي في حياتهم ما يستحقون من الشكر والذكر، وما فعلتُ شيئًا يُذكر سوى أني شَهِدتُ بما عَلِمتُ، وكتبتُ شهادتي عنهم بصدقٍ، ومحبةٍ، ووفاءٍ، وذلك جهدُ المقلِّ، وحيلةُ المقصِّر، ﴿وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ﴾.
وختامًا أرجو أن تكون هذه الشَّهاداتُ قد بَلَغَتْ غايتَها، وأدَّت رسالتَها، وما أحوج الأستاذ إلى كلمةِ شُكرٍ من طلابه في حياته، وإلى تكريم يسمعه بأذنيه، ويراه بعينيه أو يشعر به فيلمسه ويعيشه بنفسه، وإن كان الأستاذُ -أيُّ أستاذٍ- لا يريد منَّا جَزاءً ولا شكورًا، فاللهُ يجزيه، ويثيبه، ويرضيه، ويتولاه بفضله، ويغنيه. ولكن لمَ لا؟ لمَ لا نَتلمَّس هذه الجوانب الإنسانية، ونخرجُ قليلًا عن ذواتنا، وعن تقصيرنا وانشغالنا بالحياة وبما فيها، بل وأحيانًا نقصِّر حتى في ذِكرِهم أو تَذكُّرِهم بدعوة صادقة في ظهر الغيب أو في صلواتنا وأذكارنا. وتلك سنةٌ متَّبعةٌ توارثناها عن نبيِّنا المعلِّم الأكرم، والنموذج الأعظم ﷺ، وقد سمعناها من آبائنا ومشايخنا، وهم يدعون لمن علَّمهم الدينَ والقرآنَ العظيمَ، وكانوا يجعلونها وِرْدًا في صلواتهم، وركنًا في دعواتهم.
فرحمَ اللهُ الجميع، وجعلنا بهم مقتدين، وبسنتهم لاحقين، ونفعنا الله وإياكم بما عَلِمنا، وغفرَ لنا ما جَهِلنا، وتجاوزَ عنَّا فيما قَصَّرنا! إنه وليُّ ذلك والقادرُ عليه، والحمدُ لله أولًا وآخرا.

د. إبراهيم أبو طالب
24 ربيع الآخر 1442هـ 
9 من ديسمبر 2020م

 

دار ديوان العرب، بورسعيد مصر، ط1، 2021م.
نُشِرَت بصيغتها الأولى في مجلة (أقلام عربية) 
من العدد (23) سبتمبر 2018م حتى العدد (47) سبتمبر 2020م
وعلى المدونة: 
https://ibraheemabotalib.blogspot.com

 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

متعلقات