قصة
الكفيف - مصطفى لغتيري
الجمعة 5 نوفمبر 2021 الساعة 17:31
الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة


 

ليس ببعيد عن بوابة الحديقة، جلست الفتاة تحمل كتابا، كانت قد بدأت قراءته منذ يومين تقريبا. لم تتوغل عميقا في الحديقة.. اختارت أول كرسي خشبي في الممر الرئيسي وجلست..  المكان فارغ تقريبا.. فضلت هذا المكان القريب من البوابة دون غيره كنوع من الحذر الذي عودت نفسها عليه.. “لا يدري المرء أي أشخاص يرتادون الحديقة في هذا الوقت من النهار؟” قالت ذلك في نفسها بكثير من الحرص، حتى لا تسقط ضحية الخوف، فتلغي كليا فكرة الجلوس في الحديقة وقراءة الكتاب.. استنشقت دفقة من هواء بارد، أشعرتها بكثير من الانتعاش، فيما جال بصرها في المكان من حولها.. أشجار ضخمة هنا وهناك.. عشب أخضر يمتد على طول أرضية الحديقة، تتخلله أحواض، غرست فيها أزهار بأنواع مختلفة، زادت المكان جمالا.. أنواع من الطيور تتنافس فيما بينها لتملأ المكان بشدوها، الذي يتناغم حينا ويتنافر أحيانا أخرى.. فتحت الكتاب وغاصت بين سطوره.. مر أمامها بعض الناس، كانت تسترق النظر إليهم على استحياء، ثم تلجم بصرها لتعود إلى كتابها، محاولة التركيز فيه أكثر.

شعرت بخطى تقترب منها، حاولت التجاهل، لكنها لم تستطع ذلك بشكل كلي. رفعت عينيها عن الكتاب، فإذا بها وجها لوجه مع حارس الحديقة فاطمأنت نفسها. ما لبث الرجل أن تقدم منها ثم قال لها:

-داخل الحديقة أفضل .. هناك أماكن هادئة أنسب للقراءة.

شكرت الرجل على نصيحته، ثم عادت إلى كتابها، وهي تزين شفتيها بابتسامة عرفان. استمر الرجل في جولته في الحديقة متتبعا ممراتها الضيقة، حتى يحافظ على النظام المرغوب داخلها.

الجو معتدل. الحديقة بنباتاتها تزيده انتعاشا، استمرت الفتاة في قراءة الكتاب الذي يستريح بين يديها. كان كتاب مغامرات يتحدث عن رجل اختار السفر بعيدا ليستقر في جزيرة مقطوعة عن الناس، بحثا عن تجربة جديدة في الحياة.. الفتاة مستمتعة بمغامرات البطل، تتفاعل معها بكثير الاهتمام، يظهر ذلك على سحنتها التي تتغير تدريجيا حسب مواقف البطل.

سمعت ثانية وطء أقدام يقترب. رفعت عينيها. كان هناك شاب وشابة يقتربان. الشابة تكاد تكون في عمرها بينما الشاب يكبرها بقليل، ربما اللحية التي أطلق لها العنان لتنمو أوحت لها بذلك. اختار الشابان كرسيا، غير بعيد عنها وجلسا.. تجاهلتهما إلى حين، بيد أن شيئا ما شدها إليهما، لم تستطع الانفلات منه، ولا استطاعت الإفصاح عنه لنفسها، بيد انها سرعان ما تجاهلت الأمر كليا وعادت إلى الكتاب لتتملى صفحاته.

في لحظة ما رفعت عينيها تجاه البوابة. رات شابا تقوده عصاه البيضاء النحيفة في الممر، انشغلت بالنظر إليه، في الوقت، الذي  شعرت فيه بأن عاطفة ما انبثقت من مكان ما من قلبها او عقلها نحوه، ما فتئت ان هيمنت عليها.. ترجمها جسدها لرعشة خفيفة، تعاطفا مع الشاب الذي يمضي في طريقة نحو عمق الحديقة،  شرد ذهنها قليلا، ثم داهمتها لحظة تركيز حين لاحظت أن سير الشاب مال قليلا، فإذا به يمضي في الطريق الخطأ، وقبل أن يفقد كليا اتجاهه الصحيح، انتفضت الفتاة واقفة وأسرعت نحوه. أمسكته من يده وعادت به نحو المسار الصحيح. شكرها الشباب، وقال لها:

- شكرا لك. كان علي أن لا أنحرف في طريقي.. أرغب في الوصول إلى منبع الماء في عمق الحديقة.
شعرت الفتاة ان الشاب يستنجد بها لتوصله إلى المكان المقصود، فيما فكرت هي في ان الامر مناسب لها، على الأقل تضمن لنفسها رفقة طيبة ومسالمة لا خوف منها.

ردت عليه الفتاة:

 - لا تشغل بالك أنني متوجهة لنفس المكان.
عبر الشاب الكفيف عن سعادته وشكرها، بينما تمسك بذراعها دون تردد، وكأنه تعود على فعل ذلك، ثم مضيا معا نحو النبع المائي في عمق الحديقة.

كانا يمشيان ببطء شديد لم تتعود عليه الفتاة. الشاب ينطق بكلام تحاول أن تسايره فيه.. بدا لها انه يعوض عدم قدرته على البصر بالاسترسال في الكلام، وكأن ذلك يبعد عنه شبح الشعور بأنه وحيد، ويؤكد لنفسه انه الآن يظفر برفقة. كان الشاب قد طوى العصا وتأبطها، إذ لم يعد في حاجة إليها. كل من يقع بصره على الاثنين وهما يتقدمان لا يمكنه أن يفكر ابدا في عاهة الشاب وخجل الفتاة، بل يظنهما عاشقين يبحثان عن لحظة صفاء بعيدا عن أعين الفضول.

مر الشابان عبر ممرات عدة، كان الشاب خلالها يخبرها بنوع الازهار التي يمران بجانبها، مستعملا حاسة شمه القوية، وفي لحظة ما بدأ الطريق في نوع من الارتفاع، شعر به الشاب، فسألها:

- هل نحن نصعد تلة؟
أجابته الشابة:

- هو مرتفع بسيط لنثل إلى النبع.
شكرها من جديد، ثم قال لها:

- أنت الآن عيناي
قال ذلك وابتسم.. فيما زاد خجل الفتاة، فهي لم تتوقع منه جرأة مماثلة، غير أنه تدارك قائلا:

- كلما قادني شخص في طريقي اعتبرته عيني اللتين حرمت منهما.
ردت الفتاة متفهمة:

- نعم فهمت قصدك.. لا عليك.
استمرا في طريقهما ثم ما لبث صوت خرير الماء ان وصلهما، وكان الشاب الكفيف أول من تلقفه.. فخاطبها قائلا:

- يبدو أننا وصلنا.
أكدت الفتاة كلامه، ثم قالت له:

- هل تفضل أن تكون بجانب النبع أم تبتعد قليلا.

- لا يهمني أين أجلس، بقدر ما يهمني كيف أعود من حيث أتيت بعد الاستمتاع بالنبع.
فكرت الفتاة أنه يورطها في امر ما، فلم تمانع، ردت عليه:

سأبقى بالقرب. حين تكتفي من المكان ناديني وسأوصلك للبوابة
- لكن ماذا أناديك.. هلا شرفتني باسمك.
احست انه يورطها أكثر، لكنها لم تتردد كثيرا، بحماس أجابت:

- اسمي نادية
- تشرفت بك واسمى حسام.
- تشرفت بك، لكن أين تفضل أن تجلس؟
- بجانبك
ثم تدارك قائلا أقصد في مكان لا تكونين بعيدة عنه حتى لا أزعجك.

في نفسها قالت الفتاة ” يبدو أنه جريء” ثم ما لبثت أن تجاوزت الأمر وردت عليه:

– حسنا لن أكون بعيدة .. فقط اختر المكان الذي يناسبك.

– لا أجمل من تحت شجرة ظليلة.. هلا اخترت لي مكانا مناسبا بنفسك.

قادته الفتاة نحو كرسي تغطيه الظلال.. جلس الفتى.. وحين حاولت المغادرة، خاطبها قائلا:

أشعر بأنك تحبين الكتب.. يبدو كلامك مرتبا ومركزا كأنك كلمات مكتوبة، وأظن أنك تحملين معك كتابا.
مستغربة أجابت:
-نعم الامر كذلك.. كيف عرفت ؟
لدي حدس قوي
في نفسها قالت” يا لحدسه هذا الذي سيورطني” ثم ابتسمت وقالت ممازحة:

- وطبعا تحب أن أجلس بجانبك وأقرأ لك.
- لا أطمع في ذلك، لكن إن كنت تستطيعين لن أمانع طبعا.
في نفسها قالت” ما أذكاه، بل ما أخبثه. لديه خطة مقنعة” ثم قالت:

'نعم لا أمانع، لكن ليس بالضرورة سيعجبك ما أقرأه.
مستدركا الأمر قال بلهفة:

- بالعكس، لدي حدس ان ذوقك جميل وسيعجبني
ردت بمماحكة:

- هل أعتبر هذا غزلا؟
- أعتذر لم أقصد ذلك.
- لا عليك فقط أمازحك.
جلست الفتاة بجانب الفتى.. امتد صمت بينهما، ثم أخذت الكتاب وطفقت تقرأ بصوت رخيم سطورا من الكتاب، لحظتها لا تدري كيف تسرب إلى ذهنها قصة سبق ان قرات تفاصيلها، قصة ” طه حسين وسوزان”.. ابتسمت ثم واصلت القراءة.

توغلت الفتاة في القراءة ، محاولة ان تكون وفية في نقل  تفاصيل الحكاية للفتى الذي بجانبها، وهو من جانبه كان منغمسا في الإصغاء كتلميذ مجد. في لحظة ما توقفت عن القراءة، ثم قالت له، وكأنها ترمي كل ترددها بعيدا:

- ما رايك في جولة؟
ابتسم الشاب ثم قال لها:

-تصوري كنت سأطلب منك ذلك لكنني لم املك الشجاعة لفعل ذلك.
ممازحة ردت عليه:

- بل اظن أنك تملك الكثير منها
انتفضا واقفين، مدت له ذراعها، أمسك به، ثم مضيا في ممرات الحديقة، وفي نفسها كانت تقول” ربما حصلت على مغامرتي الخاصة بي”، فيما كان الفتى يحكي شيئا ما لم تنتبه إليه، لأنها كانت تعرف أنه فقط يرغب في إثبات ذاته أمامها من خلال الاستفاضة في الحديث، وهو لا يدري انه لم يعد محتاجا إلى ذلك، لأنها هي التي أضحت معنية بإثبات ذاتها له.

 

قصة جديدة ضمن مشروع مجموعة قصصية جديدة  ستصدر في2022.

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

متعلقات